في حياة هذا الأمريكي ذي الأصول الأوروبية العديد من الدروس،
فهو مثل الكثير منا، كان شغوفا في طفولته بمعرفة كيف تعمل الألعاب والآلات،
خاصة المحركات. إنه والتر كرايسلر Walter Chrysler
المولود عام 1875 في ولاية كانساس الأمريكية، ولا تذكر المصادر الكثير عن
تعليمه، سوى أنه بدأ العمل صغيرا في وظيفة بواب مقابل 10 سنت في الساعة، ثم
وافق وعمره 17 سنة على خفضها للنصف مقابل الاشتراك في دورة تعليمية مدتها 4
سنوات لتعلم استخدام الآلات (ليكون عامل آلات أو Machinist) في إحدى ورش
السكك الحديدية. هذا البرنامج التعليمي ساعده على فهم آلية عمل المحركات
البخارية والكوابح الهوائية.
بعدما أنهى دراسته العملية، بدأ يسافر ويسيح في الولايات
الأمريكية الأخرى، بحثا عن العلم ورغبة في تعلم المزيد. كان يركب على ظهور
القطارات وينزل في المحطات ليبحث عن أي عمل يساعده على تعلم المزيد في
صناعة السكك الحديدية. من لطائف القدر، في كل محطة عمل فيها، كان يتعلم
أشياء جديدة، يستفيد منها في حياته العملية بعدها، فعلى سبيل المثال، كانت
صناعة عربات القطارات قد بدأت في استخدام المطاط في أجهزة تعليق العربات
على العجلات، لكبت الصدمات والاهتزازات، وحين تعلم والتر آلية عمل أجهزة
التعليق هذه، فلم يتردد فيما بعد في نقل استخدام المطاط في مصدات الصدمات
في السيارات.
لم يعرف والتر الاستقرار، وكان دائم التجوال، وفوق ذلك كان لا
يتردد في خفض راتبه مقابل الاشتراك في برامج تدريبية وتعليمية على مر
حياته، كما اشترك في برامج تعليم بالمراسلة، ودرس الهندسة الكهربية عن بعد،
وطوال فترة تعلمه، كان راتبه يزيد وكذلك شهرته ودائرة معارفه ومعدل تنقله
من مدينة لولاية ومن شركة لمصنع، حتى التحق بشركة بويك Buick (جنرال موتورز
حاليا) وأسس شركته التي حملت اسمه.
لكن قبلها أريد الوقوف عند محطة مهمة في حياته، فبينما هو في
أوج شهرته في مجال السكك الحديدية، كان قد بدأ يلاحظ بزوغ نجم صناعة
السيارات، وبينما كان يقبض 12 ألف دولار في السنة، وافق على قبول عرض للعمل
في مصنع شركة سيارات مجهولة (وقتها) اسمها بويك. كان عرض العمل هذا مقابل
نصف راتبه، أي 6 آلاف دولار، لكنه وافق على العرض ليخوض بنفسه هذا الغمار.
قبلها كان والتر قد أدخر بعض المئات من الدولارات، على أمل
بدء نشاطه التجاري الخاص، إلا أنه استثمر مدخراته كلها زائد قرض حصل عليه
من صديق في شراء سيارة بخارية، الأمر الذي أثار دهشة وتعجب ورفض الأصدقاء
والأقرباء والجيران. حين وصلت السيارة أخيرا إلى والتر، قام بفعل شيء أثار
دهشة الجميع وأعجزهم عن الكلام: بدأ والتر في تفكيك كل جزء في السيارة حتى
لم يعد منها مكون لا يمكن فكه أكثر. بعدها بدأ والتر يعيد تركيب كل شيء معا
مرة أخرى، ثم يفكه ثم يكررها وهكذا. (الطريف أنه حين قاد والتر هذه
السيارة بنفسه أخيرا، اكتشف أنه لا يجيد قيادة السيارات واصطدم بجدار.)
ما يزيل الدهشة ويُـبـقي الانبهار والإعجاب بوالتر، هو أنه من
خلال تلك التجربة اليدوية، كان يتعلم كيف يمكن صنع سيارة، وكذلك يتعلم
طبيعة عمل كل مكون وما فائدته وماذا يقدم، وكان يلاحظ بعين الخبير جوانب
الضعف والقوة في تصنيع كل مكون. بعدها بسنوات، حين تسلم والتر عمله في شركة
بويك، التي كانت تنزف الخسائر، فإنه تمكن من ترشيد النفقات بدرجة جعلته
يجلب للشركة راتبه السنوي في أول أسبوع، إذ بدأ يضع نظام سجلات لمتابعة
المكونات والسيارات، وأدخل تعديلات على طريقة تصنيع السيارة اختصرت الوقت
اللازم لتصنيع كل طراز على خط الانتاج بمقدار النصف، وأدخل فكرة طلاء
مكونات السيارة قبل تركيبها كسبا للوقت، وبعدما كان المصنع ينتج 45 سيارة
في اليوم، بفضل تعديلات والتر أصبح ينتج 200 سيارة يوميا!
هل كانت حادثة شراء وتفكيك وإعادة تركيب هذه السيارة ضربا من الجنون – أم فنا من فنون الإبداع واستقراء المستقبل؟
لعل الجدير بالذكر أن شخصية والتر كانت العبقري الذي يرفض
المديرين، وهو ما يفسر تنقلاته الكثيرة في سلم الوظائف، وحتى بعد نجاحه
الطاغي مع مصنع بويك، اصطدم مع مديره في بويك فاستقال، فأسرع مدير جنرال
موتورز (والمالكة لشركة بويك وقتها) بالسفر إليه ومقابلته لاسترضائه
وإغرائه بالترقية والعمل تحت إمرة هذا المدير مباشرة مع مضاعفة الراتب
والحوافز. وافق والتر على هذا العرض واستمر في عمله وكذلك في جلب الأرباح،
وما هي إلا سنوات حتى اصطدم مع مدير جنرال موتورز ذاته واستقال. هذه المرة
لم يسارع أحد لاسترضائه.
كان سن والتر وقتها 45 سنة، وكان يفكر ما الذي يمكنه عمله
الآن. هل تذكرون الصديق الذي سبق وأقرضه المال لشراء سيارة من أجل تفكيكها؟
عاد هذا الصديق وأخبر والتر عن شركة سيارات تئن تحت وطأة الخسائر وديون
قدرها 50 مليون دولار، جعلت البنوك المقرضة تتولى إدارتها، هذه البنوك طلبت
من والتر فعل ما بإمكانه لإنقاذ مالهم والشركة من الافلاس وأطلقت يده في
الإدارة. بعد عامين من إدارته للشركة، تقلصت الديون إلى 18 مليون دولار
فقط. مرة أخرى اختلفت آراء المديرين مع والتر فترك هذه الشركة بعد سنتين
فقط.
بعدها وجد والتر شركة سيارات أخرى غارقة في الديون، عرضت عليه
إدارتها مقابل إنقاذها، وهو ما كان، لكن براتب أقل. من حل مشكلة لتوفير
نفقات لاختراع أشياء جديدة لقروض مليونية، حتى اشترى والتر هذه الشركة
وأعاد تسميتها كرايسلر باسمه، بعد مرور 19 سنة على شرائه لهذه السيارة الأولى وتفكيكها قطعة قطعة وإعادة تركيبها.
من الطريف في سيرة والتر أنه في بداية عمله مع هذه الشركة،
صمم – لأول مرة في حياته – طرازا متقدما بسعر منافس للغاية من البداية
للنهاية وأطلق عليه اسمه، وحين أراد المشاركة بالنموذج الأولي لهذا الطراز
في معرض نيويورك السنوي للسيارات عام 1924، كانت الشروط تقتضي عرض سيارات
بدأ إنتاجها وبيعها فعليا. للتغلب على هذا الشرط، استأجر والتر مدخل الفندق
الذي يتردد عليه المشاركون في هذا المعرض، وعرض النموذج الألي هناك بطريقة
ظاهرة لفتت الأنظار وانتباه الجميع، الأمر الذي ساعد هذا الطراز على
النجاح عند بدء بيعه في الأسواق. توالت النجاحات حتى أصبحت كرايسلر ثالث
أكبر شركة سيارات في أمريكا في حياة مؤسسها والتر، وكان لها مساهمة عظيمة
في المجهود الحربي الأمريكي في الحرب العالمية الثانية.
بعد باع طويل في الإبداع في تصميم السيارات، قرر والتر أن يترك بصمته في البناء، فساهم عن قرب في تصميم برج كرايسلر،
والذي استمر محافظا على لقب أطول مبني في العالم لفترة قصيرة، لكن بشهادة
الكثيرين، فمن الصعب أن تعثر على برج يضاهي هذا المبني في الجمال والفن
والاهتمام بالتفاصيل.
والآن، وقت الدروس والعبر:
• والتر لم يحصل على شهادة جامعية مرموقة، بل استمر يتعلم بيديه ويراقب بعينيه ويحلل بعقله، ما ساعده على تقديم حلول أسرع وأرخص وأفضل.
• كان والتر حريصا على تعلم الجديد، ولو مقابل خفض الراتب أو العمل مع شركة خاسرة أو أن يهيم على وجهه في الأرض بحثا عن العلوم.
• كان والتر ملما بالعديد من فنون الصناعة، حريصا على ضم أفضل العقول لفريق عمله، الأمر الذي مكنه دائما من خفض التكلفة وتقديم الجديد.
• لأن والتر كان منضما للماسونيين، ربما وجدت هجوما شديدا عليه، وانتقاصا من قدره، وتقليلا لسيرته، وهذا مكمن الخطر. العبرة ليست بالأشخاص بل بالأفعال. فليكن الرجل ما يشاء، ما يهمني هو أفكاره وكيفية حله للمشاكل وماذا تعلم وأين، وكيف أستفيد أنا من كل هذه الدروس من حياته. أرجو ألا يكون هذا سبب خلو موسوعة ويكيبيديا العربية من صفحة لهذا الرجل، في حين تتوفر صفحة عربية لشركته!
• والتر لم يحصل على شهادة جامعية مرموقة، بل استمر يتعلم بيديه ويراقب بعينيه ويحلل بعقله، ما ساعده على تقديم حلول أسرع وأرخص وأفضل.
• كان والتر حريصا على تعلم الجديد، ولو مقابل خفض الراتب أو العمل مع شركة خاسرة أو أن يهيم على وجهه في الأرض بحثا عن العلوم.
• كان والتر ملما بالعديد من فنون الصناعة، حريصا على ضم أفضل العقول لفريق عمله، الأمر الذي مكنه دائما من خفض التكلفة وتقديم الجديد.
• لأن والتر كان منضما للماسونيين، ربما وجدت هجوما شديدا عليه، وانتقاصا من قدره، وتقليلا لسيرته، وهذا مكمن الخطر. العبرة ليست بالأشخاص بل بالأفعال. فليكن الرجل ما يشاء، ما يهمني هو أفكاره وكيفية حله للمشاكل وماذا تعلم وأين، وكيف أستفيد أنا من كل هذه الدروس من حياته. أرجو ألا يكون هذا سبب خلو موسوعة ويكيبيديا العربية من صفحة لهذا الرجل، في حين تتوفر صفحة عربية لشركته!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق